فتبيّن بهذا أن السفر إلى المدينة أو بيت المقدس في غير الصلاة في المسجدين ليس طاعة ولا مستحبا ولا قربة، بل هو منهيّ عنه وإن نذره، لقوله صلى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (?) رواه البخاري وغيره، وهو من حديث مالك في الموطأ. فمن سافر لبيت المقدس لغير العبادة المشروعة في المسجد مثل زيارة ما هنالك من مقابر الأنبياء والصالحين وآثارهم كان عاصيا عنده، ولو نذر ذلك لم يجز له الوفاء بنذره، وكذلك من سافر إلى قبر الخليل أو غيره، وكذلك من سافر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم لمجرّد القبر لا للعبادة المشروعة في المسجد كان عاصيا، وإن نذر ذلك لم يوف بنذره؛ سواء سافر لأجل قبره أو لأجل ما هنالك من المقابر والآثار أو مسجد قباء، أو غير ذلك.

وقال القاضي عبد الوهاب في «الفروق»: «يلزم المشي إلى بيت الله الحرام ولا يلزم ذلك إلى المدينة ولا بيت المقدس، والكل مواضع يتقرب بإتيانها إلى الله.

والفرق بينهما: أن المشي إلى بيت الله طاعة فيلزمه، والمدينة وبيت المقدس الطاعة في الصلاة في مسجديهما فقط، فلم يلزم نذر المشي لأنه لا طاعة فيه، ألا ترى أن من نذر الصلاة في مسجديهما لزمه ذلك، ولو نذر أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه».

فإذا كان إمامه ينهى عن السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم دون إتيان مسجده، ونهى الناذر لذلك أن يوفي بنذره، والمالكية- بل الأئمة الأربعة- وغيرهم متّفقون على أن ذلك لا يوفي بنذره، بل مالك والجمهور نهوا عن الوفاء بنذره لكونه عندهم معصية، فيلزم هذا المفتري أن يكون مالك وأصحابه مجاهرين بالعداوة للأنبياء مظهرين لهم العناد، وكذلك سائر الأئمة والجمهور؛ الذين حرّموا السّفر لغير المساجد الثلاثة، وإن كان المسافر قصده الصلاة في مسجد آخر.

ومعلوم أن المساجد أحبّ البقاع إلى الله، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحبّ البقاع إلى الله المساجد، وأبغضها إلى الله الأسواق» (?).

والأئمة الأربعة متفقون على أن السفر إلى مسجد غير الثلاثة لا يلزم بالنذر، ولا يسنّ، وليس مستحبا، ولا طاعة ولا برّا ولا قربة، وجمهورهم يقولون: إنه حرام، مع أن قصد المساجد للصلاة فيها والدعاء أفضل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم واتفاق علماء أمته من قصد قبور الأنبياء والصالحين والدعاء عندها، بل هذا محرم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015