حقيقة الإعجاز

أما الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن، وما حققناه بعد البحث، وانتهينا إليه بالتأمل وتصفح الآراء وإطالة الفكر وإنضاج الروية، وما استخرجناه من القرآن نفسه في نظمه ووجه تركيبه واطراد

أسلوبه؛ ثم ما تعاطيناه لذلك من التنظير والمقابلة، واكتناه الروح التاريخية في أوضاع الإنسان وآثاره وما نتج لنا من تتبع كلام البلغاء في الأغراض التي يقصَد إليها، والجهات التي يعمل عليها،

وفي رد وجوه البلاغة إلى أسرار الوضع اللغوي التي مرجعها إلى الإبانة عن حياة المعنى بتركيب حي من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقة التأليف وإحكام الوضع وجمال التصوير وشدة الملاءمة،

حتى يكون أصغر شيء فيه كأكبر شيء فيه - نقول إن الذي ظهر لنا بعد كل ذلك واستقر معنا، أن القرآن معجز بالمعنى الذي يُفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، حين ينفى الإمكان بالعجز عن غير

الممكن، فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغاً وليس إلى ذلك ماتى ولا جهة؛ وإنَّما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بان له مادة من

الألفاظ كأنها مفرغة إفراغاً من ذوْب تلك المواد كلها.

وما نظنه إلا الصورة الروحية للإنسان، إذا

كان الإنسان في تركيبه هو الصورة آلروحية للعالم كله.

فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني؛ ومعجز كذلك في حقائقه؛ وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء؛ فهي باقية ما بقيت، وقد أشرنا

إليها في بعض الفصول المتقدمة؛ على أنها ليست من غرضنا في هذا الباب وإنَّما مذهبنا بيانُ إعجازه في نفسه من حيث هو كلام عربي. لأننا إنما نكتب في هذه الجهة من تاريخ الأدب دون جهة التأويل والتفسير.

ونحن في كل ما نضعه من هذا الكتاب إنما نسلك الجانب الضيقَ من الطريق، ونقتصُّ الأثرَ الطامِسَ، ونلتزم الخطة التي تُحمل عليها النفس حملاً.

وقد كان فيما قدمناه، بل فيما دونه،

مقنَع، لو آثرنا ما تستوطنه النفس، عطفاً على ما تنازع إليه من السكر كلما انتهت إلى حجة واضحة، أو استبانَت لائحة مُفسرَة؛ ولكننا نمضي ما اعتزَمنا؛ فاللهم عَونَكَ! واللهمْ عَونَكَ!

هذا، ولا بد لنا قبل الترسل في بيان ذلك الإعجاز، أن نَوطئ بنبذٍ من الكلام في الحالة اللغوية التي كان عليها العربُ عندما نزل القرآن، فسنقلبُ من كتاب الدهر ثلاثَ عشرةَ صفحة

تحتوي ثلاثةَ عشر قرناً؛ لنتصل بذلك العهد حتى نُخبر عنه كأننا من أهله وكأنه رأيُ العين؛ وإنَّما سبيل الصحة فيما نحن فيه أن يشهد عليه الشاهدان: العين، والأذن؛ إذ كان من شأنهما أن لا تثبت دعوى في حادثة دون أن يشهد عليهما أحدهما أو كلاهما.

بلغ العرب في عقد القرآن مبلغاً من الفصاحة لم يعرف في تاريخهم من قبل، فإن كل ما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015