بسم الله الرحمن الرحيم

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وها أنا أشرع في المقصود بعون الملك المعبود.

فأقول - وبالله التوفيق لأحسن الطريق - (قوله: بسم الله الرحمن

الرحيم) قد أفردها بالتأليف من لا يحصى من العلماء، وأبدى فيها وأبدع من لا يستقصى من النبلاء، ومع ذلك ما بلغوا معشار ما انطوت عليه من لطائف الأسرار ونكات التفسير، إذ لا يحيط بتفضيله وجمله إلا اللطيف الخبير، كيف ذلك وقد قال الإمام علي كرم الله وجهه: لو طويت لي وسادة لقلت في الباء من بسم الله الرحمن الرحيم وقر سبعين بعيرا.

وفي رواية عنه: لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيرا من معنى بسم الله الرحمن الرحيم.

ولكن ينبغي التكلم عليها من جنس الفن المشروع فيه، وفاء بحقها وبحق الفن المشروع فيه.

والآن الشروع في فن الفقه الباحث عن الأحكام الشرعية، فيقال: البسملة مطلوبة في كل أمر ذي بال - أي حال - يهتم به شرعا، بحيث لا يكون محرما لذاته ولا مكروها كذلك، ولا من سفاسف الأمور - أي محقراتها - فتحرم على المحرم لذاته كالزنا، لا لعارض كالوضوء بماء مغصوب.

وتكره على المكروه لذاته كالنظر لفرج زوجته، لا لعارض كأكل البصل.

ولا تطلب على سفاسف الأمور، ككنس زبل، صونا لاسمه تعالى عن اقترانه بالمحقرات.

والحاصل أنها تعتريها الأحكام الخمسة: الوجوب، كما في الصلاة عندنا معاشر الشافعية - والاستحباب عينا: كما في الوضوء والغسل، وكفاية: كما في أكل الجماعة، وكما في جماع الزوجين، فتكفي تسمية أحدهما - كما قال الشمس الرملى أنه الظاهر - والتحريم في المحرم الذاتي، والكراهة في المكروه الذاتي، والإباحة في المباحات التي لا شرف فيها، كنقل متاع من مكان إلى آخر، كذا قيل.

وإنما افتتح الشارح كتابه بالبسملة، اقتداء بالكتاب العزيز، وعملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أو أقطع أو أجذم.

والمعنى - على كل - أنه ناقص، وقليل البركة، وقلة البركة في كل شئ بحسبه.

فقلتها في نحو التأليف قلة انتفاع الناس به وقلة الثواب عليه، وفي نحو الأكل قلة انتفاع الجسم به، وفي نحو القراءة قلة انتفاع القارئ بها، لوسوسة الشيطان له حينئذ.

وأتبع ذلك بالحمدلة، عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر أو أقطع أو أجذم.

وقوله في الحديث فهو أبتر إلخ ... هو عند الجمهور من باب التشبيه البليغ.

وعلى هذا فالأبتر وما بعده باقية على معانيها الحقيقية، وعند السعد يجوز أن يكون من باب الاستعارة بأن يشبه النقص المعنوي بالنقص الحسي الذي هو قطع الذنب، أو قطع إحدى اليدين، أو الجذم - بفتحتين - ويستعار البتر، أو الجذم، أو القطع، للنقص المعنوي.

ويشتق منه أبتر أو أقطع أو أجذم، بمعنى ناقص نقصا معنويا.

فإن قلت: بين الحديثين تعارض لأنه إن عمل بحديث البسملة فات العمل بحديث الحمدلة، وإن عمل بحديث الحمدلة فات العمل بالآخر.

قلت: قد ذكر العلماء لدفع التعارض أوجها كثيرة، فمن جملتها: أن الابتداء قسمان: حقيقي، وإضافي أي نسبي.

والأول هو ما تقدم أمام المقصود ولم يسبقه شئ، والإضافي ما تقدم أمام المقصود وإن سبقه شئ.

وقال عبد الحكيم: أنه يشترط في

الإضافي أن يسبقه شئ، وحمل حديث البسملة على الأول والحمدلة على الثاني، تأسيا بالكتاب العزيز، وعملا بالإجماع.

واعلم أنه جاء في فضل البسملة أحاديث كثيرة، غير الحديث المتقدم، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أول ما كتب القلم بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا كتبتم كتابا فاكتبوها أوله، وهي مفتاح كل كتاب أنزل.

ولما نزل بها جبريل أعادها ثلاثا، وقال: هي لك ولأمتك، فمرهم أن لا يدعوها في شئ من أمورهم، فإني لم أدعها طرفة عين مذ نزلت على أبيك آدم، وكذلك الملائكة.

وروي أنها لما نزلت هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين، وحلف الله بعزته وجلاله أن لا يسمى اسمه على مريض إلا شفاه، ولا يسمى اسمه على شئ إلا بارك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015