وقال حماد بن إسحق قال لي أبو ربيعة لو لم تكن هذه القصيدة "بزينب ألمم" لنصيب؛ شعر من كانت تشبه؟ قلت: شعر امرئ القيس "لأنها جزلة الكلام جيدة. فقال: سبحان الله قلت: ما شأنك؟ قال: سألت أباك عن هذا فقال لي مثل ما قلت" فعجبت من اتفاقكما.

وفي أسطورة أدبية رواها صاحب الجمهرة سئل جني من أشعر العرب؟ فقال:

ذهب ابن حجر بالقريض وقوله ... ولقد أجاب فما يعاب زياد

ويقول الآمدي: "وفضل امرؤ القيس لأن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف ولطيف التشبيه وبديع الحكمة؛ فوق ما استعار سائر الشعراء منه في الجاهلية والإسلام. ولولا لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها وإقباله عليها لما تقدم على غيره ولكان كسائر شعراء أهل زمانه. ألا ترى أن العلماء بالشعر إنما احتجوا في تقديمه بأن قالوا هو أول من شبه الخيل بالعصا وذكر الوحش والطير وأول من قال قيد الأوابد الخ. فهل هذا التقديم إلا لأجل معانيه.

ومن آثار شعر الطبيعة عند امرئ القيس وصفه الجميل الرائع لليل وطوله:

وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انحلي ... بصبح وما الأصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل

والقارئ يقف أمام هذه القطعة الفنية الجميلة متأملاً معجباً مشدوهاً من روعة البيان وجمال التصوير ورقة التعبير وقوة التأثير ومن هذه الشخصية الفنية الكاملة التي تبرز من هذه الأبيات في وضوح وقوة وجمال.

الليل رهيب، ظلماته كالموج، اللجى؛ وقد أقبل على الشاعر، فأثار في نفسه الذكريات، وهاج كوامن الأحزان وبعث الهموم من مرقدها، وترك النفس موزعة حيرى مفزعة.

واستمرت صور الماضي وأحداث الحاضر تتراءى أمام عينيه يتذكرها ويذكرها، يتذكر حياته اللاهية العابثة في صباح، وهذه الآمال والآلام التي تعتلج في صدره وذكريات الحب والأحباب المؤثرة الباقية.

وطال الليل على الشاعر وطال، وامتد وامتد، فرسم لطوله هذه الصورة البارعة التي تجدها في البيت الثاني، فكأنه يتمطى بصلبة، وكأن أعجازه وأواخره يردف بعضها بعضاً، وكأنه يقع بصدره على المهمومين والمحزونين ليوسعهم ألماً وشقاء.

ويتمنى الشاعر أن يذهب الليل بظلمته ورهبته؛ وأن يشرق الصبح بضوئه وجماله ولكنه يعود فيتذكر أن أحزانه كامنة في نفسه فلن يسري عنها إشراق الصباح ولا ضجيج الحياة في أول النهار.

وتستمر الصور والذكريات تطوف بخيال الشاعر وأمام عينيه اليقظتين والليل كما هو لم يذهب ولم يطلع الصباح الجميل، وكأنه لا يريد أن يذهب بل كأنه مشدود بحبال قوية شدت بصخرة من صخور هذا الجبل الغليظ.

صور جميلة لا يعدل جمالها جمال، وخيال يقظ مشبوب لا يماثله في استنباط دقائق التصوير خيال.

وهكذا كان امرؤ القيس وبحق ما كان زعيم الشعراء في الجاهلية.

ويرى الأصمعي أن أحسن الناس تشبيهاً امرؤ القيس في قوله:

كأن قلوب الطير رطباً ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي

وفي قوله:

كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

وفي قوله:

ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد

وفي قوله:

سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال

وأن أبدع تشبيهاته قوله يصف فرساً:

كأن تشوفه بالضحى ... تشوف أزرق ذي مخلب

إذا قرعته جلال له ... تقول سلبت ولم تسلب

فقال الرشيد للأصمعي: هذا حسن؛ وأحسن منه قوله:

فرحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوب فيه العين طوراً وترتقي

واجتمع عبيد الأبرص وامرؤ القيس يوماً فقال عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال قل ما شئت تجدني كما أحببت. فقال عبيد:

ما حية ميتة قامت بميتتها ... درداء ما أنبتت ناباً وأضراسا

فقال امرؤ القيس:

تلك الشعير تسقى في سنابها ... قد أخرجت بعد طول المكث أكداسا

فقال عبيد:

ما السرد والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تمساسا

فقال امرؤ القيس:

تلك السحائب والرحمن أنشأها ... روى بها من محول الأبيض أبياسا

فقال عبيد:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015