والسُّيوطي يلمِّح بهذا العنوان إلى حال هذا القَصَّاص الذي يلتقط الأحاديثَ الموضوعة والأخبارَ المكذوبة وينشرها في مجالسه دون تثبُّت، فهو أشبهُ بالقشَّاش الذي يلتقط أراذلَ الطَّعام من المزابل ليأكلَها دون توقٍّ من عُفونتها وقَذارتها.

وقد صنَّف السُّيوطي عدَّة كتب في بيان الأحاديث الموضوعة، أشهرها ((اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة))، و ((النُّكَت البديعات في التعليق على الموضوعات))، و ((تحذير الخواصِّ من أكاذيب القُصَّاص)) [5] الذي كتبه إثر استفتاءٍ جاءه عن هذا القاصِّ نفسه الذي كان يورد في مجالسه أحاديثَ مكذوبةً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأفتى السُّيوطي سائليه بعدم جواز هذا الصَّنيع، وبيَّن أنَّ الواجبَ عليه أن يراجعَ أهل الحديث المختصِّين بمعرفة الصَّحيح والموضوع، ويعرض عليهم ما جمع ليمحِّصوه، فلمَّا علم القاصُّ بالفتوى استشاط غضباً وقام وقعد وادَّعى أن مثله لا يحتاجُ إلى مراجعة شيوخ الحديث وأنه أعلمُ أهل الأرض بهذا الفنِّ، ولم يكتفِ بهذا الادِّعاء حتَّى أغرى العوامَّ وغَوغاء الناس فتكلَّموا في السُّيوطي وآذَوه بألسنتهم، بل توعَّدوه بالقتل والرَّجم، فازداد السيوطيُّ إصراراً على موقفه، وأضاف على فَتواه الأُولى أنّ القاصَّ المذكورَ إذا لم يُراجع مشايخ الحديث لمعرفة الصحيح من الموضوع وعاد إلى روايتها بعد أن بيَّنوا له بطلانها، واستمرَّ مُصرّاً على نقل الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسوف يُفتي بضربه سِياطاً تعزيراً له، فازداد القاصُّ حدَّة، «وتزايد الأمرُ من عُصبة العوامِّ شدَّة، وثاروا ثورةً كبرى، وجاؤوا شيئاً إمراً».

وألَّف السيوطي حينئذ كتابه ((تحذير الخواصّ من أكاذيب القُصّاص)) [6]، كما انتقد القاصَّ المذكور ومن انتهج سبيله في مقامتيه ((الدَّوَران الفَلَكي)) و ((طرز العِمامَة))، وأطال النَّفَس في مقامة ((الفَتَّاش على القَشَّاش)) [7] موضوع مقالنا هذا.

وقد أبهم السيوطي اسمَه في ((المقامة الفلكيَّة)) وحشَره في زمرة الذين يَروون الأكاذيبَ والأباطيل، ويتَّخذونها سببا للشِّحاتة وقال: «قد ورد في هذا العامّ ِرجلٌ قَصَّاص يلفُّ الحِلَق، ويُقدم على رواية الأحاديث فيكثر الزَّلل والزَّلَق ... فقلتُ: إن سكتُّ عن هذا ظنَّ النّاسُ صحَّة هذه الأخبار، وتناقلوا بألسنتهم ما يأتي به من الكذب على الاستمرار، وذلك لأن نقَّادَ الحديث قليل، والطَّرْفُ من كلِّ الناس عن تمييز الصحيح من السَّقيم كليل، فإذا رأَوا أهل الفنِّ ساكتين عن الإنكار، سَرى ظنُّ صِحَّتها إلى الأذهان منهم والأفكار» [8].

ونراه في «طرز العِمامة» يذكر تخبُّط هذا القاصِّ فيما أورده من أحاديثَ باطلة وينبِّه على ضرورة التثبُّت ممَّا في الكتب: «ليس كلُّ ما في الكتب من الأحاديث بثابتٍ وَصلُهْ، ولا بجائز نَقلُهْ، ولا أنت من صيارفة الحديث ونقَّادِهْ، ولا من رجاله الذينَ هم رجالُ إسنادِهْ، وقد خبطتَ في الأحاديث الثابتة التي رويتَها، وخلطتَ في ألفاظها وما سوَّيتَها، فما يسعك من الله أن تنقل حرفاً من حديث أو أثرْ، حتَّى تصحِّحَه على حافظٍ من نقَّاد الفنِّ فيرشدكَ إلى ما تأتي وتَذَرْ» [9].

أمّا في مقامة «الفتَّاش على القَشَّاش» فقد أطال السيوطي فيها النَّفَس، وصرَّح فيها باسم القاصِّ المردود عليه، واشتدَّ عليه للغاية، وحذَّر من ظاهرة الوضع والكذب وعدم التثبُّت من الأحاديث حين نقلها والاستدلال بها، وأعلن في المقدِّمة براءةً عامَّة من الوضَّاعين والكذَّابين:

«براءةٌ إلى الملكِ الجليلْ، وإلى المصطفى المختارِ للتنزيلْ، وإلى الرُّوح الأمين جبريلْ، وإلى كلِّ رسولٍ مرسَلْ، وإلى كلِّ نبيٍّ عليه وحي مُنزَلْ، وإلى كلِّ مقرَّب ومَلَكْ، وإلى كلِّ من تضمُّه الأفلاك فَلَكًا بعد فلَكْ، وإلى كلِّ صحابيٍّ وصديقْ، وإلى كلِّ تابع بإحسانٍ على التحقيقْ، وإلى السَّلَف الصالحْ، وإلى الخَلَف الذين عقلُهم راجِحْ [10]، وإلى الأئمَّة الأربعة أصحابِ المذاهبْ، وإلى سائرِ المجتهدين من أربابِ المواهبْ، وإلى كلِّ مُقرىء ذي تيسيرْ، وإلى كلِّ قائم بالتفسيرْ، وإلى كلِّ ذي تأويلٍ أصفى من الذَّهَب الإكسيرْ، وإلى كلِّ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015