ولذلك تجد العارف بأحوال الفريقين إذا وجد المتأخرين على غير وفاق مع المتقدمين في الحكم على الراوي أو الحديث، قدّم قول المتقدمين، وربما اكتفى بالإشارة إلى أن المتقدمين أعلم، ليوقظ النائم، وينبه الغافل، ويزجر الجاهل.

فهذا العلامة ابن عبدالهادي -رحمه الله- (ت: 744هـ) لما ذكر حديث حمنة بنت جحش -رضي الله عنه- في استحاضتها، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لها: «تحيضي ستة أو سبعة أيام في علم الله»؛ ذكر حكم المتقدمين، وأن البخاري قال: هو حديث حسن، وأن أحمد بن حنبل قال: هو حديث حسن صحيح.

ثم ذكر إعلال الخطابي والبيهقي للحديث، ومبالغة ابن منده في تضعيفه، وختم ابن عبدالهادي المناقشة بين الفريقين بقوله: «ومن صحح هذا الحديث أو حسنه من الأئمة أعلم ممن تكلم فيه» [شرح علل ابن أبي حاتم ص55].

وسُئل الدارمي عن حديث، وقيل له: إن البخاري صححه، فقال: «محمد بن إسماعيل أبصر مني» [هدي الساري ص484].

وإن شئت أن تقف على حقيقة ما بين علوم المتقدمين والمتأخرين من الفرق والتفاوت، فإليك قاعدة كلية عند المتقدمين والمتأخرين، لكن شتان بين الفريقين في إعمالها.

فمن جملة ما هو معلوم أن المحدث لكثرة استقرائه وممارسته للحديث النبوي يميز بينه وبين كلام غيره بحيث لا يمكن أن يشتبه هذا بهذا عليه، وربما حكم المحدث على الحديث بمجرد النظر في متنه دون النظر في سنده، فقال ابن أبي حاتم: «يقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلامًا يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويُعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته» [تقدمة الجرح والتعديل ص351].

ومن أجل هذا أورد ابن القيم -رحمه الله- (ت: 751هـ) سؤالاً، وهو: «هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن يُنظر في سنده؟»، ثم أجاب بقوله: «فهذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعرف ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، وخلطت بدمه ولحمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه، فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة، بحيث كأنه كان مخالطًا للرسول -صلى الله عليه وسلم- كواحد من أصحابه» [المنار المنيف ص35].

فإذا قارنت بين المتقدمين والمتأخرين في نقد المتون أو الحكم على الأحاديث بمخالفتها للمتون الصحيحة، فإنك تجد بعض المتأخرين قد جازف في بعض أحكامه، تدرك مِن ذلك مَن الذي تضلع من معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه حق الاختلاط؟!

فانظر مثلاً إلى ما انتقده العلماء على ابن حبان، وابن الجوزي، والجوزقاني من المجازفات في رد بعض الأحاديث لتوهم مخالفتها للسنة الصحيحة.

قال الحافظ العلائي -رحمه الله- (ت: 761هـ): «ولهذا انتقد العلماء على أبي الفرج ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات) وتوسّعه في الحكم بذلك على كثير من الأحاديث التي ليست بهذه المثابة» [الفوائد الموضوعة في الأحاديث المرفوعة ص63 - 64].

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (ت: 852هـ): «فقد أخطأ من حكم بالوضع بمجرد مخالفة السنة مطلقًا، وأكثر من ذلك الجوزقاني في كتاب (الأباطيل) له» [النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 846)].

وقال أيضًا: «وكما زعم ابن حبان في (صحيحه) أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إني لست كأحدكم، إني أطعم وأسقى) دال على أن الأخبار التي فيها أنه كان يضع الحجر على بطنه من الجوع باطلة.

وقد رد عليه ذلك الحافظ ضياء الدين فشفى وكفى» [النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 846 - 849).

...

بعد هذا العرض لجملة من الأمور التي تبين وتوضح حقيقة الفرق بين علوم المتقدمين وعلوم المتأخرين في علل الأخبار ونقد الرجال والروايات، فإنه لا يرتاب عاقل أن المتقدمين أقعد بالعلم من المتأخرين.

كذلك لا يرتاب عاقل في أن حدس المتقدمين في نقد الأخبار والتمييز بين المرويات فارط جدًا، وأن حكمهم على الأحاديث لقرائن احتفت بها عدلوا بسببها عن اطراد الكليات إنما هو لغلبة ظن ثبتت عندهم، وأن تعقبهم بإعمال القواعد وإهمال القرائن دائمًا غير سديد.

وإذا كان أبو حاتم الرازي يتهيب مخالفة الإمام أحمد، والحافظ الذهبي يتهيب نقد صحيح البخاري، والدارمي يقدم البخاري على قوله ويعلل بأنه أعلم، وابن عبدالهادي يرجح بحكم المتقدمين، فنحن أحق بهيبة وترجيح المتقدمين.

وليست هذه دعوة لإهدار تصحيحات المتأخرين، كلا، بل هي دعوة لتقديم من كان أكثر صوابًا وأقوم قيلاً ممن هو دونه تنزيلاً وتفضيلاً [ SIZصلى الله عليه وسلم="4"] [ شرح الأصفهانية ص105]، وهي دعوة لتأمل تصحيحات المتأخرين في ضوء كلام المتقدمين.

وممارسة قراءة كتب العلل توقفك على كثير مما سبقت الإشارة إليه، وتوجب لك تقدير الكبار ومعرفة أقدارهم وقيمة أحكامهم.

انتهى.

ـ[عبد الرحمن بن شيخنا]ــــــــ[27 - 10 - 08, 11:00 م]ـ

جزاك الله خيرا

وهذا البحث الذي اتحفتنا به يحتاجه الكثير لمعرفة أهمية رأي المتقدمين

ولاسيما السبب الرابع

ولكن المشكلة انه لايمكن رد أي حديث لمجرد انه أعله أحد المتقدمين ولو بلغ ما بلغ لحتمال أن اجتها ده كان في غير محله الا ان اتفق على رده ثلاثة أو اكثر ففي هذه الحالة يردولايقبل مطلقا وإن لم تظهر لنا فيه اي علة ويكون الحديث ضعيفا

ولكن يفيدنا ذالك في

1 - وجود احتمال كبير لوجود علة في ذلك الحديث فيكون ذلك دافعا لمزيد بحث وتحري عن الحديث

2 - ان مجرد اعلا لهم لحديث لم تظهر لنا علته ينزل الحديث من درجة الصحة الا الحسن

3 - ويفيد ذلك في ما اذا تعارضت تلك الرواية مع رواية اخرى صحيحة كانت أوحسنة فتنزل الرواية التي اعلها المتقدمون الى درجة الضعف في هذه الحالة

4 - ومع ظهور علة في ذلك الحديث ترده يزداد الحديث ضعفا فينزل من درجة الضعيف الى درجة الضعيف جدا لحتمال ان الضعف الذي اعله به المتقدمون غير تلك العلة

هذا ما أراه

والله تعالى أعلم

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015