فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وأن هذا باطل، وأن هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلت: سل عما قلت من يًحسن مئل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم.

قال: من هو الذي يُحسن مثل ما تُحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت؟ قلت: نعم، قال: هذا عجب، فأخذ، فكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث، فما قلت: إنه باطل قال أبو زرعة: هو كذب، قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت: إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت: إنه منكر قال: هو منكر، كما قلت، وما قلت: إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما، فقلت: فقد دلّك أنا لم نجازف وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله بأن دينارًا مبهرجًا يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار مبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت إن هذا مبهرج؟ هل كنت حاضرًا حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلت إن هذا نبهرج؟ قال: علمًا رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك [تقدمة الجرح والتعديل (ص349 - 350)].

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: «فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود، جيدها ورديئها، وخالصها ومشوبها، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلاً لغيره، وآية ذلك أنه يُعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم، فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة» [جامع العلوم والحكم (2/ 105 - 106)].

وحدس المتقدمين فارط جدًا، لتضلعهم في معرفة السنن، وأصبحت حساسيتهم في تمييز قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قول غيره شديدة، وملكتهم في ذلك عظيمة، فإذا قرع سمعهم حديث الراوي، علموا صوابه من خطئه.

والمتأخرون في الغالب إنما ينظرون في كلام الأئمة المتقدمين في الراوي، فيقبلون الحديث أو يردونه بناءً على حكم المتقدمين، فأين الفرع من الأصل؟!

فرعاية المعنى في مرويات الرواة هي الركن الأكبر في الحكم على الراوي، قال العلامة عبدالرحمن المعلمي (ت: 1386هـ): «رعايتهم للمعنى سابقة، يراعونه عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الراوي» [الأنوار الكاشفة ص9].

قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني هشام قال حدثنا الهيثم بن عمران قال سمعت الأوزاعي وسأله منيب فقال: أكل ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نقبله؟ فقال: «نقبل منه ما صدقه كتاب الله -عز وجل-، فهو منه، وما خالفه فليس منه».

قال له منيب: إن الثقات جاؤوا به. قال: «فإن كان الثقات حملوه عن غير الثقات؟» [تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 271)].

ولأجل هذا قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- في أولئك: «وأكثرهم ليس عندهم من التبحر في العلم، وممارسة الفن ما يؤهلهم للترجيح ومعرفة العلل، وأعظم ما عند أحدهم أن يتمسك بظاهر قاعدة من قواعد الفن» [العبادة (ق55/أ)]، ثم قال: «وهذه القواعد منها ما هو ضعيف، ومنها ما ليس بكلي، ومنها المختلف فيه، والعالم المتبحر الممارس للفن هو الذي يصلح أن يحكم في ذلك بشرط براءته عن الهوى، والتجائه إلى الله -تعالى- دائمًا أن يوفقه لإصابة الحق» [العبادة (ق55/ب-ق56/أ].

وثم فرق ظاهر بين المتقدمين من أهل الصنعة، وبين من تعلم الصنعة، فالمتقدمون صنعتهم الحكم على الحديث، وبيان علل الأحاديث وسائل، وكيفما استعملوا الوسائل فالحكم واحد، فتجدهم تارة لا يفصحون عن علة الحديث، أو يتباينون في أسباب إعلال الحديث.

أما من تعلم الصنعة، فتجده يقدس الوسائل، فيحار في وجوه اختلاف المتقدمين في رد الحديث وإعلاله، وربما تعقبهم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015