وهذا قد يكون سائغًا في الراوي المتفق على حاله قولاً واحدًا إما توثيقًا أو تضعيفًا، أما الراوي المختلف فيه، فتلك المختصرات تعجز عن الإفصاح عن حقيقة حال الراوي، وما فيها من عبارات إنما هي تذكرة وإشارات ورموز لمن يعرف حال الراوي تفصيلاً، فبالإشارة يتجدد الذهن في معرفة حال الراوي تفصيلاً، فضلاً عن أن تطبيقات الحافظين في أحكامهم العملية تختلف من حديث لآخر، لأن لكل حديث قرائن تختص به.

وأعجب من هذا أن ينتقد متأخر على متأخر نقله عن متقدم في الحكم على الراوي، ثم يأتي متأخر ثالث فيرد ما حصل من الإنكار.

فهذا عبدالحق الإشبيلي (ت: 582هـ) قال في عبدالملك بن سعيد: «ذكره أبو محمد بن أبي حاتم، ولم يذكر أحدًا روى عنه إلا ربيعة بن أبي عبدالرحمن» [الأحكام الوسطى (1/ 104)].

فتعقبه أبو الحسن ابن القطان الفاسي (ت: 628هـ) فقال: «فهو إذن قد اعتقد في عبدالملك بن سعيد هذا أنه مجهول الحال، وأول ما اعتراه فيه سوء النقل، وذلك بقلة التثبت، فإنه لو نظر، رأى في كتاب ابن أبي حاتم خلاف ما ذكر.

وذلك أن ابن أبي حاتم قد ذكر عن أبيه أنه روى عنه بكير بن عبدالله بن الأشج، فزاد هو من عنده أن ربيعة بن أبي عبدالرحمن روى عنه، فوقع بصر أبي محمد على قول ابن أبي حاتم: روى عنه ربيعة بن أبي عبدالرحمن، فقال ما ذكر: من أنه لم يرو عنه غير ربيعة بن أبي عبد الرحمن» [الوهم والإيهام (5/ 310)].

ثم جاء بعد من يُنكر على ابن القطان، فقال أبو زرعة أحمد ابن الحافظ عبدالرحيم العراقي (ت: 826هـ): «واعترض عليه والدي، بأن هذا النقل عن عبدالحق ليس بصحيح، وإنما نقل عبدالحق عن ابن أبي حاتم أنه لم يذكر أحدًا روى عنه إلا بكير بن الأشج وربيعة» [البيان والتوضيح لمن أخرج له في الصحيح ومُسَّ بضرب من التجريح ص146].

ومن التصرف الواقع من المتأخرين في كلام المتقدمين في الرواة، أن بعضهم أحيانًا يحكي قولاً واحدًا للمتقدم في الراوي، مع أن المتقدم له أكثر من قول في الراوي، وأقواله غير متفقة في الراوي.

فهذا سبط ابن العجمي (ت: 841هـ) ذكر أن العقيلي، وابن عدي، وابن الجوزي جميعًا تواردوا على أن ابن معين ضعف إبراهيم بن سليمان البغدادي، فتعقبهم جميعًا بقوله: «وثقه ابن معين فيما رواه عنه أربعة حفاظ» [نهاية السول في رواة الستة الأصول (1/ 282)].

وقد وقع الخطأ أحيانًا فيما يُنسب للمتقدمين من الكلام في الرواة، فهذا الحسن بن موسى الأشيب روى أبو حاتم الرازي عن علي بن المديني أنه ثقة [الجرح والتعديل (3/ 38)]، وروى عبدالله بن علي بن المديني عن أبيه قال: كان ببغداد، وكأنه ضعفه [تاريخ بغداد (7/ 428)].

فعلق الذهبي (ت: 728هـ) بقوله: «الأول أثبت» [ميزان الاعتدال (1/ 524)]، ثم علق سبط ابن العجمي بقوله: «ولا شك أنه أثبت، وأين أبو حاتم وابن علي بن المديني» [نهاية السول في رواة الستة الأصول (3/ 294)].

وكتاب الضعفاء للحافظ ابن عدي من أمثل المصنفات في الضعفاء، ومع هذا فقد عيب عليه انفراده في بعض الأمور، وحكايته لبعض المرويات.

فعلى سبيل المثال انفرد بذكر أشعث بن عبدالملك الحمراني في الضعفاء، وتعقبه الحافظ الذهبي -رحمه الله- (ت: 728هـ) فقال: «إنما أوردته لذكر ابن عدي له في كامله، ثم إنه ما ذكر في حقه شيئًا يدل على تليينه بوجه، وما ذكره أحد في كتب الضعفاء أبدًا. نعم ما أخرجا له في الصحيحين، فكان ماذا؟» [ميزان الاعتدال (1/ 267)].

أما غيره من الكتب فالخلل فيها أكثر، فهذا ابن حبان تعنته وجرحه للرواة شديد جدًا، حتى وصفه الذهبي بقوله: «الخساف المتهور» [ميزان الاعتدال (4/ 8)]، أما ما هو مشهور عند البعض من وصفه (بالمتساهل) فهذا إن أريد به أنه متساهل في إطلاق عبارات الجرح والتعديل من غير تبين فهذا حق، وإن أريد بتساهله معنى خاص كتوثيق المجاهيل فلا بأس، أما أن يراد به التساهل في التصحيح والتعديل مطلقًا أو غالبًا فلا.

وانظر إلى كثرة الرواة الذين ذكرهم في الضعفاء وهم مذكورون في الثقات [انظر كتاب (الرواة الذين ترجم لهم ابن حبان في المجروحين وأعادهم في الثقات) للأخ د. مبارك الهاجري]، وإن كان هو قد اعتذر عن ذلك بقوله في أحد أولئك: «له مدخل في الثقات ومدخل في الضعفاء سنذكره إن شاء الله في كتاب الفصل بين النقلة» [الثقات (6/ 27)].

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015