ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[27 - 10 - 08, 10:05 م]ـ

ثالثًا: ضبط الاصطلاح:

المتأخرون عيال على المتقدمين في اصطلاحاتهم في علم الحديث خاصة، فغاية ما يفعله المتأخر هو البحث والكشف عما قاله المتقدم في رواة الحديث، ثم إعمال كليات وقواعد أولئك الأئمة المتقدمين في الحكم على المنقولات.

فأين منزلة من يلتمس معاني كلام غيره مع محاولة معرفة المحامل التي خرج عليها الكلام، من صاحب الكلام أصالة؟!

وانظر إلى ما عاناه المتأخرون من طلب حدود دقيقة لاصطلاحات المتقدمين، لتقف على حقيقة الفرق بين المتكلم أصالة، وبين المتلمس لمعاني غيره.

فالحسن استعمله المتقدمون في معاني مختلفة، كالغريب والصحيح وما هو دونه، ويحدد ذلك سياق الكلام. واضطربت عبارات المتأخرين في حدِّه، حتى قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- (ت: 728هـ): «لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك» [الموقظة ص28].

ومن اللطائف أن الترمذي هو أول من حدَّ الحسن وعرَّفه، ومع ذلك فإن تعريفه للحسن لم يرتضه العلماء، وليس عليه عمل من بعده.

والحال كذلك بالنسبة لحدود العلل التي تُضعف بها الأحاديث، والاختلاف الواقع في المتون.

قال الحافظ العلائي -رحمه الله- (ت: 763هـ): «ولم أجد إلى الآن أحدًا من الأئمة الماضين شفى النفس في هذا الموضع بكلام جامع يُرجع إليه، بل إنما يوجد عنهم كلمات متفرقة، وللبحث فيها مجال طويل» [نظم الفرائد ص112، وانظر المقترب في بيان المضطرب ص67].

وليس معنى هذا أن المتقدمين لا يأتمون بشيء، وليس لهم قاعدة صلبة ينطلقون منها، كلا، فأحكامهم على الأحاديث قاضية بتوافقهم في قواعد التمييز بين المرويات.

وقد قال رجل لأبي زرعة الرازي: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وارة يعني محمد بن مسلم بن وارة وتسأله عنه ولا تخبره بأنك قد سألتني عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلام كل منا على ذلك الحديث، فإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم، قال: ففعل الرجل، فاتفقت كلمتهم عليه، فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام [رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص113 أخبرني أبو علي الحسين بن محمد بن عبدويه الوراق بالري قال ثنا محمد بن صالح الكيليني قال سمعت أبا زرعة وقال له رجل: فذكره].

فالشأن إذاً في قدرة المتأخر في الإفصاح عن تلك القواعد، وقل مثل ذلك في فهم ألفاظ أئمة الجرح والتعديل في الرواة، فألفاظ الجرح والتعديل تختلف أحيانًا من إمام لإمام، وأحيانًا يُغرب المتقدم في بعض العبارات التي يستعملها [انظر: (شرح ألفاظ التجريح النادرة أو قليلة الاستعمال للدكتور سعدي الهاشمي]، وأحيانًا تختلف عبارات الإمام الواحد في الراوي الواحد.

وأحيانًا يكون كلام إمام الجرح والتعديل في الراوي احتياطًا، فيأتي من لم يتلمح ذلك فينزل بالراوي عن درجته ويقع منه الزلل.

قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «وهم -يعني أئمة الجرح والتعديل- مع ذلك مختلفون في الاستدلال على أحوال الرواة، فمنهم المبالغ في التثبيت، ومنهم المتسامح، ومن لم يعرف مذهب الإمام منهم ومنزلته من التثبت لم يعرف ما تعطيه كلمته، وحينئذ: فإما أن يتوقف، وإما أن يحملها على أدنى الدرجات، ولعل ذلك ظلم لها، وإما أن يحملها على ما هو المشهور في كتب المصطلح، ولعل ذلك رفع لها عن درجتها» [الاستبصار في نقد الأخبار ص7].

وأحيانًا يكون حكم الإمام في الراوي مقارنةً بأقرانه، أو جوابًا لسؤال، أو يتكلم في الراوي بما لا يتكلم في غيره لخصوصية في ذلك الراوي، قال أبو الوليد الباجي -رحمه الله- (ت: 474هـ): «إن ألفاظهم في ذلك تصدر على حسب السؤال، وتختلف بحسب ذلك، وتكون بحسب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض، وقد يُحكم بالجرحة على الرجل بمعنى لو وُجد في غيره لم يُجرح به لما شُهر من فضله وعلمه، وأن حاله يحتمل مثل ذلك» [التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح (1/ 287)].

وقال الحافظ الذهبي -رحمه الله-: «نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام عُرف ذلك الإمام الجهبذ واصطلاحه ومقاصه بعباراته الكثيرة» [الموقظة ص82].

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015