معنى آخر من المعاني التي إذا ما انضمت إلى الرواية كان ذلك دليلاً عى خطأ الراوي المتفرد بها، أن يكون الراوي الذي تفرد تفرد بالحديث عن بعض كبار الحفاظ، الذين لهم أصحاب قد حفظوا أحاديثهم، أحاديث هذا الحافظ واعتنوا بها غاية العناية واشتغلوا بها غاية الشغل ولم يخفى عليهم وإن جاز أن يخفى على بعضهم حديثاً من أحاديث ذلك الإمام الحافظ الكبير كالزهري مثلاً.

هناك طائفة من رواة الحديث تخصصوا في الزهري، طول عمره عايش يدرس حديث الزهري فقط كأن هذا الإمام الزهري جامعة من الجامعات العلمية فهذا الطالب أفنى عمره لإتقان وحفظ حديث الزهري على وجه الخصوص، فهذا بطبيعة الحال يكون أعلم الناس بحديث الزهري، فهو يعرف كل ما حدث به من حديث، ويعرف أنه حدث عن الشيخ الفلاني بكذا حديث، وعن هذا الشيخ بكذا حديث، الموصولات في حديثه كذا وكذا، المراسيل كذا وكذا المرفوعات كذا وكذا، الموقوفات كذا وكذا، صنف أحاديث الزهري وحفظه واعتنى بها غاية العناية.

فمثل هذا يصعب عليه أن يخفى عليه حديث من أحاديث الزهري لا سيما أن الزهري حفاظ حديثه ليس واحد أو اثنان بل جماعة كثيرون كمالك وابن عيينة ومعمر وزهير وهكذا، فهؤلاء جميعاً اعتنوا بحديث الزهري فإذا وجدنا حديثاً يرويه واحد ليس من هؤلاء الحفاظ يتفرد به عن الزهري والحديث ليس معروفاً عند واحد من هؤلاء الحفاظ العارفين بحديث الزهري.

لو قلنا قد يخفى على مالك، لكن ما باله خفي أيضاً على ابن عيينة؟ ما باله خفي على شعيب بن أبي حمزة؟ ما باله خفي على عقيل؟ ما باله خفي على يونس؟ صعب جداً أن يخفى الحديث على كل هؤلاء الذين تخصصوا على حديث الزهري، ثم يطلع عليه رجل ليس معروفاً بصحبة الزهري ولا الاعتناء بحديثه، كما قال الإمام مسلم -رحمه الله تبارك وتعالى- في مقدمة الصحيح: «وحكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على موافقتي لهم فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك حديثاً أو شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ لحيدثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي هذا الرجل المتفرد عن مثل هؤلاء فيروي عنهما أو عن أحدهم العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عنده فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس».

من ذلك أحاديث أعلها الإمام مسلم نفسه في كتاب التمييز, وعلل عدم قبوله لها بمثل تلك القاعدة التي قد أشار إليها في مقدمة كتابه الصحيح، من ذلك أنه ذكر في هذا الكتاب حديثاً يرويه المعافى بن عمران عن صليح عن القاسم عن عائشة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال: «هذا الحديث ليس بمستفيض عن المعافى» يعني ليس مشهوراً عن المعافى وإنما تفرد به رجل واحد عن المعافى، قال إنما رواه هشام بن بهرام وهشام بن بهران منن جملة الثقات, لكن لما تفرد بمثل هذا عن المعافى بن عمران لم يحتمل الإمام مسلم منه ذلك التفرد مع أنه من جملة الثقات، قال: «وهو شيخ» ما قال هو حافظ: «وهو شيخ من الشيوخ أي ليس من الكبار الحفاظ وإن كان ثقة ولكنه لا يحتمل أن يتفرد بحديث عن مثل المعافى بن عمران» قال: «وهو شيخ من الشيوخ ولا يقر الحديث بمثله» إذن تفرد، فهذا الإمام مسلم قد نص على القاعدة ثم هو ذكر في كلامه مثالاً يصدق عليها، والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، وبطبيعة الحال المعنى قد اتضح بفضل الله -عز وجل- بمثل هذا المثال.

حديث آخر رواه رجل اسمه يحيى بن آدم عن سفيان الثوري عن زبيد بإسناده حديثاً يرفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- سئل ابن معين عن يحيى بن آدم فوثقه ثم قال: «وهذا الحديث خطأ أو وهم» قال: «لو كان هذا الحديث صحيحاً أو هكذا صحيحاً لرواه الناس جميعاً عن سفيان» لأن سفيان الثوري من كبار الحفاظ الذين تخصص فيه جماعة من أصحابه، فكيف خفي الحديث عن جماعة أصحاب الثوري ثم لا يطلع عليه إلا من لا يعرف بالاعتناء بحديث الثوري بل قد يكون من جملة من جرب عليه الخطأ فيما إذا روى عن سفيان الثوري.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015