في الحقيقة يصعب الترجيح، ويشق تعيين الشخص الذي عناه مسلم بالرد، وذلك يرجع إلى أن مسلمًا أبهم اسمه، ولم أجد – حتى الآن – أحدًا معاصرًا، أو قريب العهد من عصر الإمام مسلم سمى ذلك الرجل. ثم إن ما قيل في تسميته كله مبني على الظن والاحتمال. قال الشيخ عبدالفتاح أبوغدة: (والعجيب الغريب جدًا أن "صحيح مسلم" قريء على مؤلفه وتلامذته وتلامذهم ... مئات المرات، وأول ما يقرأ فيه "المقدمة"، وفيها الكلام الذي سبق ذكره، ولم ينقل عن مسلم أو تلامذته أو تلاميذهم ... تعيين المعني بهذا القول. ولذا يخمن المعني تخمينًا من العلماء اللاحقين) ().

وأقوى الاحتمالات أنه عنى البخاري أو ابن المديني، فكلاهما يقول باشتراط اللقاء في السند المعنعن، ولا خلاف بينهما في ذلك – على الصحيح-، فالرد على أحدهما رد على الآخر بالضرورة لأن المهم هو القول لا القائل. وعلى فرض أن المعني هو ابن المديني فإن رد مسلم وكلامه يشمل البخاري بالضرورة لأنه يرى نفس الرأي، وكذلك العكس يدل على هذا أن مسلمًا قال: (فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته، أو للذاب عنه) ().

ولعل هذا ما يميل له الذهبي رحمه الله إذ يقول في النبلاء ج12/ص573

((ثم إن مسلما لحدة في خلقه انحرف أيضا عن البخاري ولم يذكر له حديثا ولا سماه في صحيحه.

بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لمن روى عنه بصيغة عن وادعى الإجماع في أن المعاصرة كافية ولا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما ووبخ من اشترط ذلك وإنما يقول ذلك أبو عبد الله البخاري وشيخه علي بن المديني وهو الأصوب الأقوى وليس هذا موضع بسط هذه المسالة)).

وقد خالف أحد الأفاضل من أهل عصرنا وجزم جزماً قاطعاً بأن البخاري لا يرى اشتراط اللقاء في السند المعنعن، وهذا القول في نظرنا مخالف لما عليه اتفاق العلماء، ولا نعلم أحداً قال بمثل قول ذلك الفاضل غفر الله لنا وله، ومن جملة العلماء الذين وقفت على أسمائهم وهم من كبار العلماء المحققين المدققين ممن نسبوا هذا المذهب للبخاري بدون تردد أو شك، وقد فهموا ذلك من نصوص البخاري التطبيقية في تاريخه الكبير وغيره، غير القاضي عياض في شرحه على صحيح مسلم:

1 ـ ابن القطان الفاسي (ت 628 هـ) فقد قال في بيان الوهم (ح 1035): (وذلك أن البخاري وعلي بن المديني يريان رأياً، وقد تولى رده عليهما مسلم، وهو أن المتعاصرين لا يحمل معنعن أحدهما عن الآخر على الاتصال، ما لم يثبت أنهما التقيا، وخالفهما الجمهور في ذلك، وعندي أن الصواب ما قالاه …) وانظر نصوصاً أخرى لهذا الإمام في مقدمة محقق بيان الوهم (1/ 266 ـ 268) وابن القطان الفاسي إمام مجتهد في مسائل المصطلح لا يكاد يقف على مسألة إلا وله فيها اختيار وتحقيق والرجل مطلع على التاريخ الكبير للبخاري بلا ريب

2 ـ ابن الصلاح وكلامه في ذلك مشهور معروف في صيانة صحيح مسلم وفي معرفة علوم الحديث، وانظر كتابي (موقف الإمامين …) (ص 289)

3 ـ النووي وكلامه معروف وانظر كتابي (موقف الإمامين .. ) (ص 290)

4 ـ ابن رشيد وكلامه في هذا معروف، وانظر كتابي (ص 291)

5 ـ المزي، وهو ممن يرجح مذهب مسلم، ولأهمية كلامه في نسبة القول للبخاري، ففي ترجمة " جابان " قال المزي في تهذيب الكمال (4/ 433):

(قال البخاري: لا يعرف لجابان سماع من عبد الله، ولا لسالم من جابان، ولا لنبيطوهذه طريقة قد سلكها البخاري في مواضع كثيرة، وعلل بها كثيراً من الأحاديث الصحيحة، وليست هذه علة قادحة، وقد أحسن مسلم وأجاد في الرد على من ذهب هذا المذهب في مقدمة كتابه بما فيه كفاية، وبالله التوفيق)

فانظر رحمك الله كيف أن هذا الإمام المحقق فهم من نص البخاري السابق ومن نصوصه المشابهة الأخرى أنها تتماشى مع الرأي الذي رده مسلم في مقدمته، فهل قلد المزي في نسبة القول للبخاري غيره، وهاهو نص كلامه أنه استنبط ذلك وفهمه من نصوص البخاري التطبيقية، وهو من المناصرين لمذهب مسلم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015