نظرة الجماعات للاختلافات الإسلامية

وبعض الناس اتجه في مواجهة هذه الخلافات اتجاهاً آخر؛ حيث إنه لما وجد الصراعات محتدمة بين أبناء الصحوة الإسلامية -ومنذ زمن طويل بين الاتجاهات والفرق الإسلامية والمذاهب المختلفة- ظن أن العلاج لمثل هذا: أن يترك كل إنسان مخالفة الآخرين ولو كان معهم على ما يتفقون فيه، ولا يذكر شيئاً عن الخلاف، وأن كل إنسان انتسب إلى فرقة معينة فلا حرج عليه أن ينضم إلى تجمع آخر تحت قاعدة سموها ذهبية, وهي: أن نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فطبقوا هذا على الشيعة والصوفية والخوارج وطوائف مختلفة من أهل البدع، ولا شك أن الصحوة الإسلامية في مراحل بدايتها إن لم تحدد هويتها ومعالم انطلاقتها فإنها ستتشعب بها أودية الأهواء، وتتفرق منذ البداية, ولا يكون هذا الذي أراد جمع الناس على هذا الشعار أو هذه القاعدة التي سموها ذهبية إلا كمثل إنسان أراد أن يطفئ جمراً مشتعلاً بالنار فوضع عليه قطعة من الورق أو القماش سترت الجمر لحظات، ثم إذا بها تصبح وقوداً يزداد به الجمر اشتعالاً, وتتمزق هذه القطعة من القماش أو هذا الغطاء الذي حاول أن يغطي به هذه الاختلافات؛ لأنه لم يسلك في ذلك ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي, عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).

وربما وصل الحال ببعض هؤلاء أن يطبق هذه القاعدة في التعاون على ما اتفق عليه حتى مع المنافقين وأعداء الدين, بل لو نظرنا إلى واقع كثير من الحركات الإسلامية في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه لوجدنا أنها منيت بأقسى النكبات, وفشلت في قطف ثمار التضحيات العظيمة الهائلة بسبب مثل هذه القاعدة التي بنيت على شفا جرف هار، فنجد أن العلمانيين وغيرهم قد تحالف مع الاتجاهات الإسلامية في فترة من فترات حياته وعمره، بل قد انتسب وبايع بالسمع والطاعة لقيادة هذه الاتجاهات، ويكون واحداً منها, ويظنه من لا يحسن هذه المسألة أحد المجاهدين في سبيل الله, ثم بعد تضحيات لآلاف وربما ملايين من الشهداء يأتي قطف الثمار على أيدي هؤلاء، وما ثورة الجزائر على الاحتلال الفرنسي ببعيدة عنا إذا تأملنا تاريخها، وما زال يحدث في واقع المسلمين في المشارق والمغارب مثل ذلك كثيراً كما في أفغانستان وغيرها، فكم من مجاهدين عاشوا عمرهم على الجهاد، وحازوا ثقة المسلمين في فترة من عمرهم من أجل جهادهم لأعداء الدين من الكفرة والمنافقين، ثم إذا بهم في مرحلة لاحقة يتحالفون مع الشيوعيين والباطنية والشيعة فضلاً عمن هو دونهم في هذا الشر؛ فإنه بالأولى يقبل بهذه التحالفات.

فتتمزق الأمة تمزقاً خطيراً، وتجد أن الإسلاميين في هذه الحالة صاروا ظهراً يركب ليوصل به إلى غايات خبيثة منكرة لا يستطيعون بعد ذلك أن يرجعوا عنها، ومن أمثلة ذلك القاعدة التي كانت ولم تزل تسبب خلافاً كبيراً بين أبناء الصحوة الإسلامية.

وعلى الطرف الآخر لم ير البعض أي درجة من درجات الخلاف, بل كل مسألة عنده لابد فيها من مفاصلة وولاء وبراء وانتصار -في فهمه- للسنة, وربما يكون انتصاره إنما هو لفهمه المغلوط لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وربما كانت مفاصلة في زلات بعض أهل العلم التي تغفر في جانب محاسنهم الكثيرة، لكنها بالنسبة له قضية حب وبغض وولاء وبراء, ومن لم يقبل قوله فيها أو قول إمامه أو شيخه فلا بد أن يحارب ويعادى حتى يرجع إلى ما ظنه حقاً في ذلك، فأثر هذا الفريق أثراً كبيراً في توسعة هوة الاختلافات بين المسلمين.

وعلى الناحية الأخرى طرف آخر رأى أن كل خلاف هو خلاف سائغ لا بأس منه ولا حرج فيه، وأن التفرق الحاصل هو خير وليس بشر، ولا شك أن هذا يختلف عمن رأى أن يجتمع المسلمون فيما اتفقوا فيه؛ فإنه وإن كان يعذر كل مخالف؛ لكنه يأمر بالاجتماع تحت رايته, ولا يرى جواز الخروج عن هذه الراية, وإن كان داخلها يتسع كثيراً جداً، وتكون ثوباً فضفاضاً يتسع للتناقضات والاختلافات التي تدخل تحت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن كل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار).

والبعض الآخر يرى أن التعدد مفروض، وأننا ينبغي أن نحافظ على هذا الاختلاف، وقد غاب عنه أن هذه السلبيات التي نراها واقعة في العالم الإسلامي من تباغض وتحاسد وتنازع مما يؤدي إلى تأخير العمل الإسلامي على الأقل إن لم يؤد إلى صرف الكثيرين عنه، فإن إغفال مثل هذه السلبيات في قضية الخلاف يؤدي إلى تمييع القضية, وظن الناس أن كل الاختلاف هو من باب اختلاف التكامل والتنوع، وليس كذلك بلا شك، فنريد أن نبين تصورنا وفهمنا لهذه القضية من خلال الكتاب والسنة، وفهم سلف الأمة، فنقول في مختصر كلامنا: إن اختلاف التنوع يجب استثماره بضوابط شرعية حتى لا يؤدي إلى المحاذير التي تقع من بعض السائرين والعاملين في الحقل الإسلامي, فيترتب على ذلك الفساد من جراء هذه المحاذير, وبدلاً من أن ينتفع بهذا الخلاف يصبح الأثر هو التفرق والاختلاف, وهذه المحاذير كانت: ترك الواجبات العينية الأخرى, وتحقير العلوم والأعمال الصالحة التي تقوم بها الاتجاهات الإسلامية الأخرى, والتعصب على اسم أو عمل معين دون الولاء على المنهج الإسلامي الصافي النقي منهج أهل السنة والجماعة بشموله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015