رضي الله عنه لما ولى الخلافة له زوجة يحبها فطلقها خفية أن تشير عليه بشفاعة في باطل فيعطيها ويطلب رضاها وهذا من ترك مالا بأس به مخافة مما به البأس أي مخافة من أن يفضي إليه وأكثر المباحات داعية إلى المحظورات حتى استكثار الأكل واستعمال الطيب للمتعزب فإنه يحرك الشهوة ثم الشهوة تدعو إلى الفكر والفكر يدعو إلى النظر والنظر يدعو إلى غيره وكذلك النظر إلى دور الأغنياء وتجملهم مباح في نفسه ولكن يهيج الحرص ويدعوا إلى طلب مثله ويلزم منه ارتكاب ما لا يحل في تحصيله وهكذا المباحات كلها إذا لم تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة مع التحرز من غوائها بالمعرفة أولا ثم ثانياً فقلما تخلو عاقبتها عن خطر وكذا كل ما أخذ بالشهوة فقلما يخلو عن خطر حتى كره احمد بن حنبل تجصيص الحيطان وقال أما تجصيص الأرض فيمنع التراب وأما تجصيص الحيطان فزينة لا فائدة فيه حتى أنكر تجصيص المساجد وتزيينها واستدل بما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل أن يكحل المسجد فقال لاعريش كعريش موسى (?)

وإنما هو شيء مثل الكحل يطلى به فلم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وكره السلف الثوب الرقيق وقالوا من رق ثوبه رق دينه وكل ذلك خوفاً من سريان اتباع الشهوات في المباحات إلى غيرها فإن المحظور والمباح تشتهيهما النفس بشهوة واحدة وإذا تعودت الشهوة المسامحة استرسلت فاقتضى خوف التقوى الورع عن هذا كله فكل حلال انفك عن مثل هذه المخافة فهو الحلال الطيب في الدرجة الثالثة وهو كل ما لا يخاف أداؤه إلى معصية البتة

أما الدرجة الرابعة وهو ورع الصديقين فالحلال عندهم كل ما لا تتقدم في أسبابه معصية ولا يستعان به على معصية ولا يقصد منه في الحال والمال قضاء وطر بل يتناول لله تعالى فقد وللتقوي على عبادته واستبقاء الحياة لأجله وهؤلاء هم الذين يرون كل ما ليس لله حراماً امتثالاً لقوله تعالى {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} وهذه رتبة الموحدين المتجردين عن حظوظ أنفسهم المنفردين لله تعالى بالقصد ولا شك في أن من يتورع عما يوصل إليه أو يستعان عليه بمعصية ليتورع عما يقترن بسبب اكتسابه معصية أو كراهية فمن ذلك ما روي عن يحيى بن كثير أنه شرب الدواء فقالت له امرأته لو تمشيت في الدار قليلاً حتى يعمل الدواء فقال هذه مشية لا أعرفها وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين سنة فكأنه لم تحضره نية في هذه المشية تتعلق بالدين فلم يجز الإقدام عليها

وعن سري رحمه الله أنه قال انتهيت إلى حشيش في جبل وماء يخرج منه فتناولت من الحشيش وشربت من الماء وقلت في نفسي إن كنت قد أكلت يوما حلالاً طيباً فهو هذا اليوم فهتف بي هاتف إن القوة التي أوصلتك إلى هذا الموضع من أين هي فرجعت وندمت

ومن هذا ما روي عن ذي النون المصري أنه كان جائعاً محبوساً فبعثت إليه امرأة صالحة طعاماً على يد السجان فلم يأكل ثم اعتذر وقال جاءني على طبق ظالم يعني أن القوة التي أوصلت الطعام إلي لم تكن طيبة وهذه الغاية القصوى في الورع

ومن ذلك أن بشراً رحمه الله كان لا يشرب الماء من الأنهار التي حفرها الأمراء فإن النهر سبب لجريان الماء ووصوله إليه وإن كان الماء مباحاً في نفسه فيكون كالمنتفع بالنهر المحفور بأعمال الأجراء وقد أعطوا الأجرة من الحرام ولذلك امتنع بعضهم من العنب الحلال من كرم حلال وقال لصاحبه

أفسدته إذ سقيته من الماء الذي يجري في النهر الذي حفرته الظلمة وهذا أبعد عن الظلم من شرب نفس الماء لأنه احتراز من استمداد العنب من ذلك الماء

وكان بعضهم إذا مر في طريق الحج لم يشرب من المصانع التي عملتها الظلمة مع أن الماء مباح ولكنه بقي محفوظا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015