اللذات بأن تكون مؤثرة على غيرها فإن المخير بين النظر إلى صورة جميلة والتمتع بمشاهدتها وبين استنشاق روائح طيبة إذا اختار النظر إلى الصورة الجميلة علم أنها ألذ عنده من الروائح الطيبة وكذلك إذا حضر الطعام وقت الأكل واستمر اللاعب بالشطرنج على اللعب وترك الأكل فيعلم به أن لذة الغلبة في الشطرنج أقوى عنده من لذة الاكل

فهذا معيا صادق في الكشف عن ترجيح اللذات فنعود ونقول

اللذات تنقسم إلى ظاهرة كلذة الحواس الخمس وإلى باطنة كلذة الرياسة والغلبة والكرامة والعلم وغيرها إذ ليست هذه اللذة للعين ولا للأنف ولا الأذن ولا للمس ولا للذوق والمعاني الباطنة أغلب على ذوي الكمال من اللذات الظاهرة فلو خير الرجل بين لذة الدجاج السمين واللوزينج وبين لذة الرياسة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء فإن كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد النهمة اختار اللحم والحلاوة وإن كان على الهمة كامل العقل اختار الرياسة وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أياماً كثيرة فاختياره للرياسة يدل على أنها ألذ عنده من الطعومات الطيبة نعم الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنة بعد كالصبي أو كالذي ماتت قواه الباطنة كالمعتوه لا يبعد أن يؤثر لذة المطعومات على لذة الرياسة وكما أن لذة الرياسة والكرامة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الصبا والعته فلذة معرفة الله تعالى ومطالعة جمال حضرة الربوبية والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق وغاية العبارة عنه أن يقال فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قرة أعين وأنه أعد لهم مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولاخطر على قلب بشر وهذا الآن لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعاً فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر وينغمس في بحار المعرفة ويترك الرياسة ويستحقر الخلق الذين يرأسهم لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته وكونه مشوباً بالكدورات التي لا يتصور الخلو عنها وكونه مقطوعاً بالموت الذي لا بد من إتيانه مهما أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فيستعظم بالإضافة إليها لذة معرفة الله ومطالعة صفاته وأفعاله ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل السافلين فإنها خالية من المزاحمات والمكدرات متسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكبرها وإنما عرضها من حيث التقدير السموات والأرض وإذا خرج النظر عن المقدرات فلا نهاية لعرضها فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها ويكرع من حياضها وهو آمن من انقطاعها إذ ثمار هذه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى ومحلها الروح الذي هو أمر رباني سماوي وإنما الموت بغير أحوالها ويقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من حبسها فأما أن يعدمها فلا ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الآية

ولا تظنن أن هذا مخصوص بالمقتول في المعركة فإن للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد وفي الخبر إن الشهيد يتمنى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لعظم ما يراه من ثواب الشهادة وإن الشهداء يتمنون لو كانوا علماء لما يرونه من علو درجة العلماء (?)

فإذن جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بجسمه وشخصه فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلاً إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015