ومن أراد أن يكف خاطره عن الانتقال عن المعاصي والشهوات فلا طريق له إلا المجاهدة طول العمر في فطامه نفسه عنها وفي قمع الشهوات عن القلب فهذا هو القدر الذي يدخل تحت الاختيار ويكون طول المواظبة على الخير وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت فإنه يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ولذلك نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت

وقال بعض العارفين من السلف العرش جوهرة تتلألأ نوراً فلا يكون العبد على حال إلا انطبع مثاله في العرش على الصورة التي كان عليها فإذا كان في سكرات الموت كشف له صورته من العرش فربما يرى نفسه على صورة معصية وكذلك يكشف له يوم القيامة فيرى أحوال نفسه فيأخذه من الحياء والخوف ما يجل عن الوصف وما ذكره صحيح وسبب الرؤيا الصادقة قريب من ذلك فإن النائم يدرك ما يكون في المستقبل من مطالعة اللوح المحفوظ وهي جزء من أجزاء النبوة فإذا رجع سوء الخاتمة إلى أحوال القلب واختلاج الخواطر ومقلب القلوب هو الله والاتفاقات المقتضية لسوء الخواطر غير داخلة تحت الاختيار دخولاً كلياً وإن كان لطول الإلف فيه تأثير فبهذا عظم خوف العارفين من سوء الخاتمة لأنه لو أراد الإنسان أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين وأحوال الطاعات والعبادات عسر عليه ذلك وإن كانت كثرة الصلاح والموظبة عليه مما يؤثر فيه ويكن اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في النوم لما غلب في اليقظة حتى سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي رحمة الله عليه يصف لي وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار لكل ما يقوله ولا في لسانه مجادلة عليه قال حكيت لشيخي أبي القاسم السكرماني مناما لي وقلت رأيت قلت لي كذا فقلت لم ذاك قال فهجرني شهراً ولم يكلمني وقال لولا أنه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في النوم وهو كما قال إذ قلما يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه فهذا هو القدر الذي نسمح بذكره في علم المعاملة من أسرار أمر الخاتمة وما وراء ذلك فهو داخل في علم المكاشفة وقد ظهر لك بهذا أن الأمن من سوء الخاتمة بأن ترى الأشياء كما هي عليه من غير جهل وتزجي جميع العمر في طاعة الله من غير معصية فإن كنت تعلم أن ذلك محال أو عسير فلا بد وأن يغلب عليك من الخوف ما غلب على العارفين حتى يطول بسببه بكاؤك ونياحتك ويدوم به حزنك وقلقك كما سنحكيه من أحوال الأنبياء والسلف الصالحين ليكون ذلك أحد الأسباب المهيجة لنار الخوف من قلبك وقد عرفت بهذا أن أعمال العمر كلها ضائعة إن لم يسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح وإن سلامته مع اضطراب أمواج الخواطر مشكلة جداً ولذلك كان مطرف بن عبد الله يقول إني لا أعجب ممن هلك كيف هلك ولكني أعجب مما نجا كيف نجا ولذلك قال حامد اللفاف إذا صعدت الملائكة بروح العبد المؤمن وقد مات على الخير والإسلام تعجبت الملائكة منه وقالوا كيف نجا هذا من دنيا فسد فيها خيارنا

وكان الثوري يوماً يبكي فقيل له علام تبكي فقال بكينا على الذنوب زماناً

فالآن نبكي على الإسلام

وبالجملة من وقعت سفينته في لجة البحر وهجمت عليه الرياح العاصفة واضطربت الأمواج كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك وقلب المؤمن أشد اضطراباً من السفينة وأمواج الخواطر أعظم التطاماً من أمواج البحر وإنما المخوف عند الموت خاطر سوء يخطر فقط وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب (?)

ولا يتسع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015