ما كنت تنطق به أو تعمله من قليل وكثير ونقير وقطمير وأكل وشرب وقيام وقعود قَدْ نَسِيتَ ذَلِكَ وَأَحْصَاهُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَهَلُمَّ إِلَى الْحِسَابِ وَاسْتَعِدَّ لِلْجَوَابِ أَوْ تُسَاقُ إِلَى دَارِ الْعَذَابِ فَيَنْقَطِعُ قَلْبُهُ فَزَعًا مِنْ هَوْلِ هَذَا الْخِطَابِ قَبْلَ أَنْ تَنْتَشِرَ الصَّحِيفَةُ وَيُشَاهِدَ مَا فِيهَا مِنْ مَخَازِيهِ فَإِذَا شَاهَدَهُ قَالَ {يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أحصاها} فَهَذَا آخِرُ أَمْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {ثم إذا شاء أنشره} فَمَا لِمَنْ هَذَا حَالُهُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّعَظُّمُ بَلْ ماله وللفرح في لحظة واحدة فضلاً عن البطر والأشر فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ أَوَّلُ حَالِهِ وَوَسَطُهُ وَلَوْ ظَهَرَ آخِرُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى رُبَّمَا اخْتَارَ أن يكون كلباً أو خنزيراً ليصير مَعَ الْبَهَائِمِ تُرَابًا وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا يَسْمَعُ خطاباً أو يلقى عذاباً وإن كان عند الله مستحقاً للنار فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع إذ أوله التراب وآخره التراب وهو بمعزل عن الحساب والعذاب والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق

ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيفة فَمَنْ هَذَا حَالُهُ فِي الْعَاقِبَةِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنَ العفو كيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر ويتجبر وكيف يرى نفسه شيئاً حتى يعتقد له فضلاً وأي عبد لم يذنب ذنباً استحق به العقوبة إلا أن يعفو الله الكريم بفضله ويجبر الكسر بمنه والرجاء منه ذلك لكرمه وحسن الظن به ولا قوة إلا بالله

أرأيت من جنى على بعض الملوك فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط فحبس إلى السجن وهو ينتظر أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق وليس يدري أيعفى عنه أم لا كيف يكون ذله في السجن أفترى أنه يتكبر على من في السجن وما من عبد مذنب إلا والدنيا سجنه وقد استحق العقوبة من الله تعالى ولا يدري كيف يكون آخر أمره فيكفيه ذَلِكَ حُزْنًا وَخَوْفًا وَإِشْفَاقًا وَمَهَانَةً وَذُلًّا

فَهَذَا هُوَ الْعِلَاجُ الْعِلْمِيُّ الْقَامِعُ لِأَصْلِ الْكِبْرِ

وَأَمَّا الْعِلَاجُ الْعَمَلِيُّ فَهُوَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ بِالْفِعْلِ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَخْلَاقِ الْمُتَوَاضِعِينَ كَمَا وَصَفْنَاهُ وحكيناه من أحوال الصالحين ومن أحوال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إنه كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد (?) حديث حكيم بن حزام بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائماً الحديث رواه أحمد مقتصرا على هذا وفيه إرسال خفي

فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُمْ هُوَ مُنْتَهَى الذِّلَّةِ وَالضَّعَةِ أُمِرُوا بِهِ لِتَنْكَسِرَ بِذَلِكَ خُيَلَاؤُهُمْ وَيَزُولَ كِبْرُهُمْ وَيَسْتَقِرَّ التَّوَاضُعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِهِ أُمِرَ سائر الخلق فإن الركوع والسجود والمثول قائماً هو العمل الذي يقتضيه التواضع فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقاً فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعاً وذلك لخفاء العلاقة بين القلوب والجوارح وسر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015