أطع الله فيه

ومهما عرف الشيطان من عبد هذه العادة كف عنه خيفة من أن يزيد في حسناته

وقال إبراهيم التيمي إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم فلا يطعه وليحدث عند ذلك خيراً فإذا رآه كذلك تركه وقال أيضاً إذا رآك الشيطان متردداً طمع فيك وإذا رآك مداوماً ملك وقلاك

وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالاً أحسن فيه فقال مثالهم كأربعة قصدوا مجلساً من العلم والحديث لينالوا به فائدة وفضلاً وهداية ورشداً فحسدهم على ذلك ضال مبتدع وخاف أن يعرفوا الحق فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك ودعاه إلى مجلس ضلال فأبى فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة فاشتغل معه ليرد ضلاله وهو يظن أن ذلك مصلحة له وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره

فلما مر الثاني عليه نهاه واستوقفه فوقف فدفع في نحر الضال ولم يشتغل بالقتال واستعجل ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع فيه

ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله بل استمر على ما كان فخال منه رجاؤه بالكلية

فمر الرابع فلم يتوقف له وأراد أن يغيظه فزاد في عجلته وترك التأني في المشي فيوشك إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير فإنه لا يعاوده خيفة من أن يزداد فائدة باستعجاله

فإن قلت فإذا كان الشيطان لا تؤمن نزغاته فهل يجب الترصد له قبل حضوره للحذر منه انتظاراً لوروده أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع له أو يجب الاشتغال بالعبادة والغفلة عنه قلنا اختلف الناس فيه على ثلاثة أوجه فذهبت فرقة من أهل البصرة إلى أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر من الشيطان لأنهم انقطعوا إلى الله واشتغلوا بحبه فاعتزلهم الشيطان وأيس منهم وخنس عنهم كما أيس من ضعفاء العباد في الدعوة إلى الخمر والزنا فصارت ملاذ الدنيا عندهم وإن كانت مباحة كالخمر والخنزير فارتحلوا من حبها بالكلية فلم يبق للشيطان إليهم سبيل فلا حاجة بهم إلى الحذر

وذهبت فرقة من أهل الشام إلى أن الترصد للحذر منه إنما يحتاج إليه من قل يقينه ونقص توكله فمن أيقن بأن لا شريك لله في تدبيره فلا يحذر غيره ويعلم أن الشيطان ذليل مخلوق ليس له أمر ولا يكون إلا ما أراده الله فهو الضار والنافع والعارف يستحي منه أن يحذر غيره فاليقين بالوحدانية يغنيه عن الحذر

وقالت فرقة من أهل العلم لا بد من الحذر من الشيطان وما ذكره البصريون من أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر وخلت قلوبهم عن حب الدنيا بالكلية فهو وسيلة الشيطان يكاد يكون غروراً إذ الأنبياء عليهم السلام لم يتخلصوا من وسواس الشيطان ونزغاته فكيف يتخلص غيرهم وليس كل وسواس الشيطان من الشهوات وحب الدنيا بل في صفات الله تعالى وأسمائه وفي تحسين البدع والضلال وغير ذلك ولا ينجو أحد من الخطر فيه ولذلك قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي (?) حديث إن شيطانه أسلم فلا يأمر إلا بخير تقدم أيضا

فمن ظن أن اشتغاله بحب الله أكثر من اشتغال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام فهو مغرور ولم يؤمنهم ذلك من كيد الشيطان ولذلك لم يسلم منه آدم وحواء في الجنة التي هي دار الأمن والسرور بعد أن قال الله لهما إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ومع أنه لم ينه إلى عن شجرة واحدة وأطلق له وراء ذلك ما أراد فإذا لم يأمن من نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف يجوز لغيره أن يأمن في دار

طور بواسطة نورين ميديا © 2015