فتصانيفهم عن قوة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رأي ك النصير1 والعضد والسيد والسعد والجلال وأمثالهم فإن كلا منهم يجمع إلى تحرير المعاني تهذيب الألفاظ وهؤلاء أحسنوا إلى الناس كما أحسن الله سبحانه وتعالى إليهم وهذه لا يستغني عنها أحد.
والثاني: من له ذهن ثاقب وعبارة طلقة طالع الكتب فاستخرج دررها وأحسن نظمها وهذه ينتفع به المبتدئون والمتوسطون. ومنهم من جمع وصنف للاستفادة لا للإفادة فلا حجر عليه بل يرغب إليه إذا تأهل فإن العلماء قالوا: ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخرج والتصنيف فيما فهمه منه إذا احتاج الناس إليه بتوضيح عبارته غير مائل عن المصطلح مبينا مشكله مظهرا ملتبسه كي يكسبه جميل الذكر وتخليده إلى آخر الدهر. فينبغي أن يفرغ قلبه لأجله إذا شرع ويصرف إليه كل شغله قبل أن يمنعه مانع عن نيل ذلك الشرف. ثم إذا تم لا يخرج ما صنفه إلى الناس ولا يدعه عن يده إلا بعد تهذيبه وتنقيحه وتحريره وإعادة مطالعته فإنه قد قيل: الإنسان في فسحة من عقله وفي سلامة من أفواه جنسه ما لم يضع كتابا أو لم يقل شعرا
وقد قيل: من صنف كتابا فقد استشرف للمدح والذم فإن أحسن فقد استهدف من الغيبة والحسد وإن أساء فقد تعرض للشتم والقذف. قالت الحكماء: من أراد أن يصنف كتابا أو يقول شعرا فلا يدعوه العجب به وبنفسه إلى أن ينتحله ولكن يعرضه على أهله في عرض رسائل أو أشعار فإن رأى الأسماع تصغي إليه ورأى من يطلبه انتحله وادعاه وإلا فليأخذ في غير تلك الصناعة.
قف: ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقا ولا وجه لإنكاره من أهله وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار ولله در القائل في نظمه:
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا ... ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثا ... وسيبقى هذا الحديث قديما
واعلم أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما لم يدخر لكثير من المتقدمين فلا تغتر بقول القائل: ما ترك الأول للآخر بل القول الصحيح الظاهر: كم ترك الأول للآخر فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته في ذاته لا لقدمه وحدوثه ويقال: ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم: ما ترك الأول شيئا لأنه